الخميس 28 مارس 2024 09:52 مـ 18 رمضان 1445هـ
مقالات

شهر رمضان بين الماضى و الحاضر ... ذكريات و ملاحظات

البصمة

فى طفولتى المبكرة وجدت وأترابى من الاطفال فى رمضان اشياء جميلة و بسيطة نفعلها فتسعدنا و يسعد بها الآباء و الأمهات، كنا نشترى الفوانيس الصغيرة التى تضاء بالشمع و كان من لا يستطيع الشراء يصنع فانوسا بسيطاً يشبة الى حد كبير لمبة الجاز .

و كنا نسير فى مواكب داخل شوارع القرية ونرفع عقيرتنا بالغناء ونقضى على هذا النحو وقت قد يطول او يقصر ، ونفض الموكب عندما يدركنا التعب أو أن نجد شىء آخر أكثر جاذبية لنا فنتجه اليه ، أو ربما يتضايق بعض الاهالى من الضوضاء و الصخب التى نصنعهما فينهرنا أحدهم و يطاردنا ويفرق مسيرتنا وهذا نادرا ما كان يقع .

و كانت أمتع هذه المواكب تلك التى تكون فى منتصف الشهر حيث القمر ينير لنا الدنيا , نسيت أن أقول لك عزيزى القارىء ان هذا كان فى السبعينات و لم تكن لدينا كهررباء فى قريتنا الصغيرة (عزبة المصرى) القابعة على الجانب الايسر لنهر النيل شمال مدينة اسوان بحوالى مائة كيلو متر.

و بعد ان كبرنا شيئاً ما , تعرفنا على صندوق عجيب يصدر عنه صوت تلاوة القرآن و الآذان والاغانى و حكايات جميلة و هذا الصندوق العجيب يسمونه " الراديو" وكان يعمل بالبطارية ، فبدأنا نقترب منه فوجدنا فى الاستماع اليه متعة ما بعدها متعة ففى بداية رمضان نسعد باغانى مثل رمضان جانا, وأهلا شهر الصوم و وحوى يا وحوى و غيرها من الاغانى التى لاتزال حتى اليوم مسيطرة على الأجواء الرمضانية ، ولم نستطع ان نخرج افضل منها او مثلها حتى الآن , ناهيك عن اغانى نهاية الشهر كاغانى , والله لسه بدرى يا شهر الصيام , و ياليلة العيد وغيرهما.

وقبيل الغروب يبدأ القران الكريم ثم آذان الشيخ رفعت و كنا ننصت له فقد كان صوته جميلا ًرقيقاً رخيماً بديعاً ثم يليه تواشيح دينية رائعة يصدح بها الشيخ النقشبندى, وقد أرتبط فى عقلى الباطن الشيخان بشهر رمضان حتى أننى كنت اذا سمعت الشيخ رفعت فى أى وقت من العام أجد ريح رمضان و ذكرياته الجميله.

و فى هذه الأثناء نكون قد تناولنا طعام الافطار ثم صلاة المغرب و تبدأ السيدات فى تنظيف ما تبقى من الطعام فى حين يحتسى الكبار القهوة أو الشاى و بعضهم يدخن الشيشجة أو النرجيلة أو السجاير فقد حرموا منها طوال اليوم , و الآن يقتصون لانفسهم من الحرمان و تتعالى الضحكات و تتوالى القفشات و النكات و الحكايات الجميلة و كل منا ينشغل بنفسه.

وهنا يبدأ الصندوق العجيب فى بث برامج متنوعة للتسلية منها الفوازير التى تعودت أسماعنا عليها بالصوت المميز للسيدة آمال فهمى و فى أحدى السنوات قدمها كابتن لطيف و لكن الاغلب الاعم كانت السيدة آمال فهمى وكنا ننصت لها ونحاول ان نجد حلها و نقدح الذهن ,أحيانا قليلة ننجح فى معرفة الحل وأحياناً كثيرة نفشل ,و نختلف عليها و تتعالى اصواتنا بالشجار و الصخب حتى يحل الامر بمعرفة احد الكبار الذى غالبا ما يجلينا عن المكان حتى يتمكنوا من متابعة برامج الراديو بهدوء بعيدا عن صخب وجلبة الاطفال.

و بعدها تأتى البرامج الخفيفة و المتنوعة للعلماء و المفكرين و المسؤلين ، ثم يبدأ مؤشر الراديو فى الدوران باحثاً عن المسلسل الاول, و الواقع اننا كنا نستمع الى ثلاث مسلسلات على اذاعة البرنامج العام و اذاعة الشرق الاوسط ثم اذاعة صوت العرب ويبدو انه كان هناك ترتيب و تنسيق بينهم فكنا نجد مواعيد المسلسلات الثلاث متتالية فلا يفوتنا اى مسمع منهم وقد فعلوا خيرا بهذا التنسيق.

و كانت المسلسلات غالبا فى اذاعة البرنامج العام مسلسل فكاهى للثنائى فؤاد المهندس و شويكار اما المسلسلان الاخران فاحدهما تاريخى او دينى و الثانى درامى و اعتقد انه كان هناك ترتيب لهذا الامر ، و بعد المسلسلات الثلاث نعود الى اذاعة البرنامج العام لنحلق فى سماء الأعاجيب و الاساطير و نستمع الى صوت الممثلة زوزو نبيل و هى تتقمص دور الجارية شهرزاد فى حضرة الملك شهريار و تقول بلغنى ايها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد أن ......و تحكى له احد حكايات الف ليلة وليلة فى جو اسطورى ينقلنا الى العصور الوسطى و حكايات الحروب و المكائد او روايات الجن و الشياطين.

و بعدها يحين ميعاد آذان العشاء فننتقل الى مكان آخر حيث ديوان العائلة للصلاة و البقاء هناك نستمع الى الشيخ المقرىء الذى يقرأ لنا القران و يحكى لنا الحكايات حتى اقتراب السحور فنعود ادراجنا الى المنازل لتناول طعام السحور و لكن قبلها كان هناك مسلسل جميل اسمه احسن القصص ثم برنامج رائع هو دعوة على السحور وكان يستضيف مشاهير الثقافة او الفن أو الادب وةيتحاورون فيما هو مفيد للمستمع.

و لا انسى الصوت الشجى الجميل للمسحراتى الفنان سيد مكاوى و الذى كان يصدح بكلمات المبدع الرائع فؤاد حجاج .

بالجملة كانت لنا فى رمضان ذكريات رائعة حيث كنا نلعب و نلهو ونستمع الى الاذاعة المصرية و التى اثرت فينا او على الادق بى انا شخصياً ايما تأثير و الى الآن اجدنى متمسكاً بطقوس الطفولة وهى اننى بعد صلاة المغرب أتأبط الراديو لأمارس بعضاً من الطقوس القديمة لتذكرنى بالزمن الجميل رغم مغريات التلفزيون وامكانياتها و ما يعرضه من برامج مبهرة الا اننى الى الآن ارانى متمسكاً بالاذاعة و برامجها.

و لكن واقع الأمر و مع الأسف الشديد بالرغم من تمسكنا بالاذاعة فانها تخلت عنا, لاتوجد فوازير و لا برامج ثقافية متنوعة تضيف تغرس قيم و ثقافة , و لكن انقرضت البرامج و المسلسلات فمنذ سنوات لم استمع الى اى مسلسل جديد بل اعادة لمسلسلات قديمه كما ان البرامج ذات مستوى ضعيف وضحل و الضيوف ليسوا من المفكرين او العلماء وفى بعض الاحيان يأتى مسؤلون سابقون , فلا توجد افادة و لا استفادة و لا مشاكل يتم حلها و لا متعة متابعة المسلسلات الجديدة و لا اساطير ألف ليلة وليلة.

و هنا يأتى السؤال المحير, لماذا ؟ هل لا يوجد فى مصر مبدعون ؟ هل لايوجد فى مصر مذيعون؟ هل لايوجد فى مصر ارباب ثقافة و علم؟ هل المسؤلون الحاليون ليس لديهم وقت ليطلوا على مواطنيهم عبر اثير الاذاعة. أم ان الاذاعة هى المشكلة؟

ايها السادة يجب ان تدركوا ان الاذاعة لها متابعين كثر يجب الاهتمام بهم ولا يجب صب كل الاموال و الميزانيات الضخمة الى التلفزيون فى مسلسلات و برامج قد لا تضيف كثيراً الى المشاهد حيث تنافسها فضائيات عربية واجنبية و جميعنا يعلم لمن الغلبة.

لكننا نحن جمهور الاذاعة شريحة كبيرة لا يستهان بها, يحب ان يكون هناك اهتماماً بالاذاعة ومستمعيها... إستفيقوا ....